في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أرسلتْ الباحثة كاترين كوكيو إيميلاً لحضور واحدة من محاضرات "تاريخ الدُّوار" للكاتب كاميّ دو توليدو، في بيت الشعر بزقاق موليير في باريس. ذهبتُ، متذكراً أثناء ذهابي بورخيس وهيتشكوك، وقد ترجمتُ أعمالاً لكليهما إلى العربية. تبقى استعاراتهما الكبرى، كالمرآة والكابوس والمتاهة، صالحة لأوضاع أي عالم، ماضياً أو راهناً.
أمام الجمهور، في القاعة الصغيرة التي كانت قبواً للنبيذ فيما مضى، كان جهاز الإسقاط يلقي على الجدار الأبيض وراء المحاضر صورتين مأخوذتين من فيلم "الدُّوار" لهيتشكوك. تحدث كامي دو توليدو عن خريطة لإمبراطورية تخيلها بورخيس في واحدةٍ من قصصه القصيرة: إحدى زوايا هذه الخريطة الشاسعة يقطنها الكلاب والشحاذون، ثم أتى هذا التعليق الخاطف: "الكلاب والشحاذون على هذه الخريطة، في لاوعينا السياسي الحالي، هم اللاجئون". لم يعلق أحد من الحضور. بدا ذلك التأويل، بطريقة مبهمةٍ متفق عليها، بديهياً. أنا أيضاً لم أعلق بشيء أثناء النقاشات التي أعقبت المحاضرة، ولأسمع المزيد تقصّدتُ التخفي وعدم التصريح باسمي واسم بلادي: سوريا. استبعدتُ الأدب، وتخفّيت وراء صفة الطبيب الذي كنتُه ذات يوم، مسترجعاً المرض الوراثي في عائلة بورخيس، وهو تنكس الشبكية الصباغي الذي ينتهي تدريجياً إلى الرؤية الأنبوبية والعمى؛ كما تحدثتُ عن العناصر الثلاثة المسؤولة عن توازن الجسد: الحسّ العميق والعين والأذن التي تحتوي في ظلام تيهها وحلزونها عضو كورتي، هذا العضو المجهريّ المزود بخلايا حسّاسة للضوء.
كانت تلك الملاحظة الصغيرة بداية كتاب عملتُ عليه خلال الشهور الماضية، وهو يحمل عنوان هذه المداخلة نفسها "كلاب وشحاذون". سأتحدث هنا، باختصار شديد، عن شاعرين كلاسيكيين وُسِم أحدهما بالكلب والآخر بالشحاذ، ثم كيف انتهيتُ بسببهما إلى كتابة قصيدة طويلة.
الشاعر الأول هو المعري، المولود والمتوفّى في معرة النعمان شمال غرب سوريا.
تردد المعري، في شرخ شبابه، على بغداد. أثناء إحدى زياراته، تعثر به الشريف المرتضى في مجلس عزاء، فصاح: "مَن هذا الكلب؟" فأجابه المعري جواباً شهيراً، متعددَ التفاسير في الأدب العربي، "الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين اسماً". لم يجد فقهاء اللغة إلا 67 اسماً. لنا أن نقول الآن إننا قد اهتدينا إلى اسمين ضائعين أحدهما هو المعري والآخر هو اللاجئ، أما الاسمُ الختاميّ السبعون فيبقى بمثابة النهاية المفتوحة لذلك السؤال القديم.
أكملتُ تعليمي المدرسي في ثانويةٍ اسمها المعري، في البلدة الكردية عامودة شمال شرق سوريا. كانت العربية لغتي الثانية بعد الكردية، ولا يزال تنقلي بينهما مستمراً. بات هذا التنقل طبيعياً، وإن لم يكن كذلك في البداية. في صباي ترددت على الشيخ عفيف في عامودة، شيخاً كردياً ضليعاً في اللغة العربية الفصحى ولا يجيد محكيّتها، فأحببتُ هذه اللغة في مجلسه الذي يتردد عليه كبار السن. كان المعري أول الشعراء الذين أرشدني الشيخُ إلى حفظهم، لكنني تعلّقتُ كثيراً بـعمله "رسالة الغفران". وكما نعلم، فإن هذه الرسالة هي ردٌّ على شخص شبه مجهول هو ابن القارح، جوّاب الجنّة وزائر الجحيم. يصادف شعراء من قبل الإسلام في الجنة، مثل الحطيئة الذي مُحيت ذنوبه ببيت شعر واحد قاله في هجاء نفسه، وبيته يقع في أقاصي الجنة. أما الجحيم فتغصّ بالشعراء: امرؤ القيس، الشنفرى، بشار بن برد... الوحيد الذي ليس شاعراً في الجحيم هو إبليس. يقول ملاكٌ لابن القارح إن الشعر هو قرآن إبليس، وإن إبليس هو مُلهِم الشعر وأبوه.
لم يطق المعري أغراض الشعر. ألف عمله الأساسي "اللزوميات، لزوم ما لا يلزم"، خارجاً عن المواضيع المطروقة في عصره فلم يكتب المديح ولا الغزل ولا الخمريات ولا وصف الحيوانات أو الحرب أو الصحراء. فماذا تبقّى ليكتب إذن؟ في حقل ضيق من الاحتمالات، لم ينقطع عن الشعر كأفق للتفكير، مثل شاعر راهن من الشرق الأوسط، إذا جازت هذه المقارنة الجائرة، عامداً يتجنب الكتابة عن اللجوء أو الحروب أو السجون. كيف سيكون صادقاً من دون التحول إلى واعظ أو مدَّعٍ؟ ما أصعب مثل هذا الخيار، وأي جهد جبّار يستلزم.
أتوقّف هنا عند حادثة صغيرة في "رسالة الغفران": حين أتى الصحابة إلى علي بن أبي طالب فلم يجدوه في بيته، ثم سمعوا ضجيجاً على السطح، فخرجوا ليروه وسيفه ذو الفقار يقطر دماً، فقال "وقع بين اثنين من الملائكة فصعدتُ إلى السماء لأصلح ما بينهما". صحابيٌّ قديس يقتل ملاكاً. لا يظهر جسد القتيل، لا لأن الملائكة غير مرئية أو لأن المعري أعمى، وإنما لأن الموت لا وجودَ له في الفردوس، ومَن يُقتل هناك يبقى حياً. وحدهم القتلى على الأرض يموتون حقاً.
الشاعر الكلاسيكي الثاني هو هوميروس.
إذا وضعنا احتمال "رهينة" جانباً، فإن المعنى الآخر الحرفي لاسمه في اللغة السيمّرية هو "الشحاذ الأعمى"، وقد تبنّى هذا الاسم بعد رفض شيوخ سيمّريس إيواءه، إذ اعتقدوا أنهم إذا ما سمحوا بمثل هذه السابقة الخطيرة فسوف تطفح بلادهم بالكثير من homers، أي الشحاذين العميان الذين يستجدون الصدقات. سأكتفي بذكر مثال واحدٍ من الأوديسة، حين يستمع أوديسيوس المتنكّر إلى قصته تروى في بلاط الملك آلسينوس، على لسان شاعر أعمى آخر اسمه "ديمودوكوس"، ولكنه لا يقول اسمه ولا يصرّح من أين جاء. يستمع إلى الشاعر الضرير يغني قتال أوديسيوس مع آخيل وخدعة الحصان الخشبي. القصة تُروى بطريقة مختلفة عما يريد مَن عاشها أن يصفها، فتحرَّف قصته أمامه لكنه لا يستطيع الاحتجاج. أوديسيوس، عديم الحيلة، يبكي. إنه حاضر وغائب في اللحظة نفسها.
ما نريده يختلف غالباً عما نصل إليه، وكثيراً ما يختلف ما نقوله عما ننجزه، فكلُّ ما ذكرته ليس ظاهراً في القصيدة الطويلة التي عنونتُها "السيد النكرة مصغياً إلى قصته في بلاط الملك آلسينوس"، وقد تخيلتُ المعري راوياً تلك القصة من الأوديسة. وعوضاً عن "لا أحد"، إحدى تسميات أوديسيوس العديدة في الأوديسة، اخترتُ "النكرة" التي تنطوي على معنى الإهانة والتحقير والغفليّة، مثلما تشير اشتقاقات كلمة "اسم" في لسان العرب إلى الجرح والسماء. حاولتُ كتابة مسودة القصيدة بالإنكليزية، ثم أعدتُ الكتابة باللغة العربية، لكني كنت طوال الوقت أحلم بالكردية. في التراث الكردي مغنون جوالون عميان يلقون الملاحم، مثل الغوزلار في البلقان. تخيلتُ كردياً في حاضرنا هذا، من لغة إلى لغة، من كتاب إلى كتاب، من جحيم إسلامي إلى جحيم يوناني-أوروبي، من رسالة الغفران إلى الأوديسة. أثناء هذا التيه، كان يهمني التحول الذي لا يتوقف، الترجمة المستمرة التي أحياها يومياً، الكلمات المختلفة التي تعيش معاً داخل لغة واحدة. ربما الترجمة درس روحيّ في جمال التخلي وصعوبته، لأنّ التخلي أحياناً لا يقل إبهاجاً عن الامتلاك في هذه الأزمنة السوداء.
لعل المعري، المتنسّك النباتيّ، كان سيستحسن فكرة التخلّي هذه، مستبعداً الدم من تفاسير اللون الوحيد الذي ظلّ يتذكره، بسبب حمرة الثوب الذي كان يرتديه حين أعماه الجدريّ في طفولته. أتخيله ساخراً يقول إن هذه الحمرة هي الشمسُ الغاربة التي استقبلته عند ميلاده يوم الجمعة، ثم ودّعته شيخاً، في يوم جمعة آخر، بعد ستة وثمانين عاماً.
(ألقيت هذه الورقة باللغة الفرنسية في معهد الدراسات المتقدّمة في باريس، ضمن ملتقى "المهمة الشعرية للمترجم" الذي انعقد يومي 20-21 آذار/مارس 2017)